فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا نرى الباطل كجندي من جنود الحق. وضربنا المثل من قبل وعرفنا أن الألم عند المريض من جنود العافية، فلولا ذلك الألم لاستشرى الداء دون أن يشعر المريض، فكأن الألم يلفته إلى موضع الداء ويدفعه للبحث عن وسائل الشفاء. وبذلك يتعرف على حلاوة العافية.
إذن فالباطل من جنود الحق والألم من جنود الشفاء؛ لأن أمور الحياة لو سارت على وتيرة واحدة لما عرف الإنسان أوجه الحياة، فلو لم يأتِ الألم إلى المريض لأكله المرض. فإذا كان الألم من جنود الشفاء، فالكفر أيضًا من جنود الإيمان؛ لأننا عندما نرى الكُفر ونشهد آثار الكُفر فسادًا في المجتمع، نتساءل: ما الذي يخلِّصنا من ذلك؟ ونعرف أن الذي يخلصنا من الفساد هو الإيمان.
وأُكرِّر دائمًا: كلمة الكُفر بذاتها هي الدليل الأول على الإيمان؛ لأن الكُفر هو السَّتْر، ومادام الكفر هو السَّتر، والكافر يستر الإيمان، وظهور الكفر على السطح دليل وجود الإيمان في الأصل.
ومادام الحق قد قال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فلابد بعد هذا التشخيص أن يرسم لرسوله أسلوب التعامل معهم: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا}. فأنت يا رسول الله بالخيار بين أن تحكم بينهم في القضية التي جاءوا من أجلها أو تعرض عنهم، فليس عليك تجاههم إلزام ما؛ لأنهم السماعون للكذب الأكَّالون للسُّحْت. وهم حينما يأتونك يا رسول الله طلبًا لحكم إنما يفعلون ذلك لا رغبة في معرفة الحق ولا هم يلتمسون العدل. بل جاءوك مظنة تيسير امر الباطل وأكل السُّحت لنفوسهم. وقد طلبوا الحكم في قضية الزِّنا وعندهم في التوراة كان الرَّجم عقابًا للزنا.
لقد ذهبوا لرسول الله لأنهم أرادوا أن يستروا حكم الزِّنا في التوراة، والاكتفاء بالجلد وتسويد وجه الزاني وركوبه حمارًا في الوضع العكسي بحيث يكون وجهه في اتجاه الذيل وقفاه في اتجاه رأس الحمار، وأن يطوفوا بالزاني وهو على هذه الهيئة حول البلدة. ولما لم يسمعوا ذلك الحكم من الرسول ابتعدوا عنه. إذن هم يطلبون التخفيف لأنهم كانوا سماعين للكذب واكَّالين للسُّحت. ولأن الذي سيطبق عليه الحد رجل له جاه وله مكانة وهم يريدون التقرب إليه بتخفيف العقاب عنه. وهل هناك تعارض بين قول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وبين قول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 48].
لا تعارض. والبعض يقول: إن في قوله الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله} إلزامًا. ونقول: المعنى الواضح هو أنك يا رسول الله، إن رجحت جانب أن تحكم وتقضي بينهم فاحكم بما أنزل الله، ولننظر إلى الأداء القرآني لأن المتكلم إله وحكيم: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.
ونلحظ أن الأمر هنا جاء بطريقة تؤكد أن الإعراض ممكن؛ لأنهم أرادوا أن يحكم لهم رسول الله على هواهم، وطمأنه الله بأنه سيحميه من شرهم إن أعرض عنهم، وكأن الحق يقول لرسوله: إياك أن تفكر حين تعرض عنهم أنهم سينالونك بالشر لأنك لم تحقق لهم التيسير الذي ابتغوه عندك {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا} وإياك أن تجعل الضرر منهم مُرجِّحًا للحكم؛ فأنت بالخيار؛ إما أن تحكم وإما أن تعرض. ولا تخش من شرهم لأن الذي أرسلك يحميك.
{وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} والحكم في هذه الآية يأتي كالقوس في البداية وفي النهاية، والحكم بينهم يكون بالقسط؛ أي بالعدل. والعدل ليس كما يراه الهوى ولكن حسب ما أنزل الله. أي أن الله يحب الذين يزيلون الجوْر. ومادام الحكم بالعدل يأتي ليزيل الجور، فكأنه كان من قبل جوْرٌ مُقنن؛ إذن ف {أقْسَط} أي أزال جورًا مقننًا وأعاد توازن الميزان ليعود الانسجام بين الإنسان والكون. والكون كله يسير بميزان؛ الأرض تدور والشمس تؤدي مهمتها، ولا كوكب يصطدم بكوكب آخر: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
فإن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية، فانظروا إلى الأمور الإجبارية التي حولكم، فإن كانت بنظام وميزان واعتدلت الأمور، اعدلوا- إذن- في إدارة شئونكم حتى تنسجموا كما انسجم الكون، ولذلك نقرأ قوله تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ * والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 5-8].
أمامكم الموازين العليا في الكون، ولا تستطيعون إفسادها لأنها تسير بنظام لا دخل لكم به؛ لذلك عليكم أن تتعلموا منها وأن تديروا أمور حياتكم بميزان حتى تستقيم أموركم الاختيارية. {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 8-9].
فإن رأيت حولك كونا غير مُضطرب، وغير مُتصادم، ويؤدي حركته دون تعارض أو تصادم، فافهم أنه قائم على ميزان الحق، ووضع سبحانه لك ميزانًا في الأمور الاختيارية، والمرجحات الاختيارية هي أحكام التكليف من الله، فإن أردت أن تستقيم لك الأمور الاختيارية فسر بها على الميزان الذي وضعه الله. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت} وذلك أنهم أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت} قال: تلك أحكام اليهود يسمع كذبه ويأخذ رشوته.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: السحت الرشوة في الدين. قال سفيان: يعني في الحكم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمته أو يرد عليه حقًا، فاهدى له هدية فقبلها فذلك السحت. فقيل: يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم، فقال عبد الله: ذلك الكفر {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44].
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في سننه عن ابن عباس أنه سئل عن السحت فقال: الرشا. قيل: في الحكم؟ قال: ذلك الكفر، ثم قرأ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44].
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود أنه سئل عن السحت، أهو الرشوة في الحكم؟ قال: لا. {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45] الفاسقون، ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة فيهدي لك فتقبله، فذلك السحت.
وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب: أرأيت الرشوة في الحكم، أمن السحت هي؟ قال: لا، ولكن كفرًا، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة ويكون إلى السلطان حاجة، فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رشوة الحكام حرام، وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم».
وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت. أنه سئل عن السحت فقال: الرشوة.
وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب. أنه سئل عن السحت فقال: الرشا. فقيل له: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس. الرشا في الحكم، ومهر الزانية.
وأخرج أبو الشيخ عن علي قال: أبواب السحت ثمانية: رأس السحت رشوة الحاكم، وكسب البغي، وعَسَبُ الفحل، وثمن الميتة، وثمن الخمر، وثمن الكلب، وكسب الحجام، وأجر الكاهن.
وأخرج عبد الرزاق عن طريف قال: مر علي برجل يحسب بين قوم بأجر، وفي لفظ: يقسم بين ناس قسمًا فقال له علي: إنما تأكل سحتًا.
وأخرج الفريابي وابن جرير عن أبي هريرة قال: من السحت مهر الزانية، وثمن الكلب إلا كلب الصيد، وما أخذ من شيء في الحكم.
وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هدايا الأمراء سحت».
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ست خصال من السحت: رشوة الإمام وهي أخبث ذلك كله، وثمن الكلب، وعسب الفحل، ومهر البغي، وكسب الحجام، وحلوان الكاهن».
وأخرج عبد بن حميد عن طاوس قال: هدايا العمال سحت.
وأخرج عبد بن حميد عن يحيى بن سعيد قال «لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر أهدوا له فروة، فقال: سحت».
وأخرج عبد الرزاق والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي».
وأخرج أحمد والبيهقي عن ثوبان قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش، يعني الذي يمشي بينهما».
وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا أو كرهوا جيء به مغلولة يده، فإن عدل ولم يرتش ولم يحف فك الله عنه، وإن حكم بغير ما أنزل الله ارتشى وحابى فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمي في جهنم، فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام».
وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ، والبخس بالصدقة، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة، يقتلون البريء لتوطى العامة لهم فيزدادوا إثمًا».
وأخرج الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من السحت: كسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن القرد، وثمن الخنزير، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وثمن الدم، وعسب الفحل، وأجر النائحة، وأجر المغنية، وأجر الكاهن، وأجر الساحر، وأجر القائف، وثمن جلود السباع، وثمن جلود الميتة، فإذا دبغت فلا بأس بها، وأجر صور التماثيل، وهدية الشفاعة، وجعلة الغزو».
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن شقيق قال: هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت.
وأخرج ابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من هذه السورة- يعني من المائدة- آية القلائد، وقوله: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم، فنزلت {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتَّبع أهواءهم} [المائدة: 49] قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} قال: نسختها هذه الآية {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49].
وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة. مثله.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن شهاب. أن الآية التي في سورة المائدة {فإن جاؤوك فاحكم بينهم} كانت في شأن الرجم.